إذا ألقينا نظرةً على التغيّرات التي حصلت في المنطقة بعد إستشهاد الحاج “قاسم سليماني” والشهيد “أبو مهدي المهندس”، علينا أن لا ننظر فقط إلى التغيرّات الكمية والتغيّرات الجغرافية والسياسية، بل يجب أنّ نرى أيضاً إذا ما حقّق الأعداء أهدافهم المُعلنة من وراء هذين الاغتيالين. ما هي هذه الأهداف المعلنة؟ حاولت إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، وعبر تأثير الصدمة والترويع، جر محور المقاومة وعلى رأسه الجمهورية الإسلامية في إيران إلى التفاوض أو إلى التنازل، أو إلى تهدئة الجبهة بشكل أساسي في منطقة غرب آسيا من أجل التفرغ للحرب في جبهات أخرى، وهذا ما لم يحصل بعد مضي سنتين. هذه الأهداف لم تتحقّق، وجميع جبهات المقاومة بجميع أطرافها تقوم بفرض معادلات جديدة في اليمن وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق وسنوضح لاحقاً هذه المعادلات بشكل مفصّل.
ولكن الأمر الأكيد أنه من الناحية الكمية، قلّلت القوات الأمريكية وجودها في غرب آسيا، بدايةً من أفغانستان وحتى من العراق. وكما نعلم، إنّ الاتفاقية الأمنية المُعلنة بين التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والعراق انتهت في 31 من شهر كانون الأول، وقد توعّدت العديد من فصائل المقاومة العراقية بمواجهة أي تواجد لهذه القوات دون الإنجرار وراء التسميات التي تحاول هذه القوات أن تعطيها لنفسها بأنها إستشارية وليست قتالية وما إلى ذلك. لذلك، يمكننا القول أنّ الأهداف الأساسية التي أرادت أمريكا تحقيقها من اغتيال “الحاج قاسم سليماني” ورفاقه لم تتحقق من الناحية العملية، وهنا ننتقل إلى الجانب التفصيلي على مختلف الجبهات في المنطقة لنتثبت مما حصل.
فلسطين
بدايةً في فلسطين، فلسطين المحور والقضية. يمكن القول بأن ما حدث في فلسطين، وبشكل خاص خلال السنة الماضية، هو مهم جداً من الناحية الإستراتيجية. أي بدأت القضيّة بمحاولة تهجير الاحتلال للإخوة الفلسطينيين من حي “الشيخ جراح” لتتمكّن المقاومة في غزة من استعادة القرار والكلمة الفلسطينية؛ هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فرضت المقاومة الفلسطينية عملية ردع على الاحتلال الإسرائيلي نفسه؛ أي إيقاف الحرب بوقت قياسي إذا ما نظرنا للسنوات السابقة، وعدد الشهداء الذي كان يحصيه الاحتلال، وقد حصل ذلك بشكل أساسي، ليس فقط بسبب المعادلة التي فرضتها المقاومة عبر قصف المدن والتجمعات الرئيسية التي تحتوي على العدد الأكبر من النخبة الإدارية أو الذين يتمتعون بمستوى دخل عالٍ في تل أبيب ومحيطها، ولكن أيضاً عبر فرض ردع معين تبين من كلمات المُعلقين الصهاينة ومفكريهم بعد الحرب إذ أنهم قالوا بأن القائد “السنوار” في غزة خرج يلقي خطاب النصر وكأنه لا يخاف من الكيان الصهيوني. يمكن أن نستشرف العقلية التي تصرف بها الكيان الصهيوني بموضوع الخوف، فهو يعتمد على الخوف من أجل ترهيب شعوبنا العربية والإسلامية. المقاومة هنا إستعادت من العدو هذا السلاح، أو سلاح الخوف، أصبحت هي من تمتلكه، أي القدرة على ردع العدو، والظهور بمظهر غير المرتدع من العدو أمام مستوطنيه.
إذن أفقدت المقاومة بشكل أو بآخر ثقة المستوطنين بقياداتهم العسكرية، وبناءً على إستطلاع رأي جرى قبل عدة أيام تبيّن أكثر المستوطنين يعتقدون أن جيش الاحتلال لم يتمكن من فرض حسم عسكري منذ فترة طويلة جداً. هذا عنصر جديد جداً. العنصر الثالث في المعادلة كان خطر دخول أو توسع المعركة التي حصلت في غزة، في معركة “سيف القدس”، أي دخول أطراف أخرى من محور المقاومة كما أعلن قادة المقاومة في غزة في خطاب الانتصار بأن هناك العديد من الأطراف التي كانت جاهزة وطلبت من المقاومة الإستعانة بها عند الحاجة، وليس فقط الجبهات التقليدية في لبنان وسوريا، بل أيضاً في اليمن حيث دخل الإخوة اليمنيون بشكل مباشر على خط النار. يمكننا أن نشير إلى عدّة إنجازات: أولاً فرض المقاومة معادلة ردع الاحتلال الإسرائيلي، وثانياً سحب بساط توازن الرعب من تحت قدمي الاحتلال الإسرائيلي وثالثاً فرض نفسها كمتحدث بإسم الشعب الفلسطيني وأيضاً هناك قسم رابع وهو تعزيز الترابط العضوي الموجود بين مختلف أفرقاء المقاومة حيث وصل لمستوى غير مسبوق.
اليمن
وأما فيما يخض اليمن، فقد أعلن اليمنيون إستعدادهم للمشاركة في معركة “سيف القدس” العام الماضي وهنا تبرز سابقة. اليمن كما نعلم، قبل الثورة اليمنية وقبل العدوان الذي تعرض له، كان بحكم موقعه الجغرافي بعيداً عن ساحة المواجهة مع العقدة الأساسيّة لسيطرة الإستكبار الغربي في منطقتنا، أي الكيان الصهيوني. ولكنهم اليوم تجاوزا الأمر على الرغم من هذا البُعد، وعلى الرغم أيضاً من كل الحصار الذي يتعرضون له، والحرب الضروس التي يخوضونها مع العدوان السعودي-الأمريكي. فقد أعلنوا إستعدادهم للمشاركة في معركة “سيف القدس” ليس فقط بشكل عسكري، بل أعلنوا إستعدادهم لإرسال مساعدات إنسانية إلى الإخوة في غزة، وقد أثبتوا بذلك أنهم في الصفوف الأولى للمقاومة في منطقتنا.
هذا يعني إستمرارهم بالصمود وهو بحد ذاته انتصار. هل يمكن أن تتخيلوا حجم التغيّر الجغرافي السياسي في المنطقة إذا ما انتصر اليمن إنشاءالله؟ حينها ستتبدّل المعادلات بأسرها، وستُحرم القوات الغربية، وبحكم الموقع الإستراتيجي لليمن، من حرية العمل في البحار المطلة على منطقتنا العربية الإسلامية، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى ستتوفر قاعدة أساسية لدعم المقاومة في المنطقة. لا يقتصر التغيير على الناحية الإقليمية فحسب، وإنما على المستوى الدولي. هذا البلد الذي لطالما كان من أفقر الدول المضطهدة التي كان مقدّرا لها بحسب هذا النظام العالمي أن تبقى مستعبدةً لهذا النظام وتبقى فقيرةً، قام بالثورة ورفض كل هذه الظروف التي كان يضعها العالم الغربي، قائلاً: أنا أريد أن أصبح طرفاً في هذا المحور، أنا أريد أن أشارك بقضايا أهل المنطقة، ولا أريد أن أنعزل عن القضايا الأساسية وعلى رأسها قضية فلسطين. لقد دخلوا من هذا الباب الأساسي، أي أنهم لم ينتظروا كي ينتصروا في الحرب، ولكن في خضم الحرب والحصار، أعلنوا جهوزيتهم للدخول وهذا تغيّر نوعي، وفي العام المقبل سنرى إن شاء الله تغيرّات نوعية بسبب صمود اليمنيين وتقدمهم على الجبهات. المتحدث باسم القوات اليمنية أعلن تحرير 12250 كيلومتر مربع في العالم الماضي، وإنجازات الشّعب اليمني تتحدّث عن نفسها، ولسنا نحن بحاجة لتعدادها. إذن، انتصارات المقاومة في اليمن وإنجازاتها في حالة تصاعدية تدريجياً وسنرى إن شاءالله تغيرات جذرية وإنجازات ملموسة بشكل أكبر وأكثر وضوحاً في اليمن عام 2022.
أفغانستان
وأما فيما يخص موضوع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والذي كان له وقع شديد على حلفاء أمريكا في المنطقة. يحمل هذا الموضوع وجهين؛ وجه يتمثل بانسحاب القوات الأمريكية من منطقة كانت تعتبرها إستراتيجية، ولم تدخلها بسبب أهدافها المعلنة في عام 2001 للقضاء على تنظيم القاعدة، ولكن للحصول على يد طولى، أو هذا ما تخيلوه، وذلك بهدف التأثير على الدول المحيطة كإيران والصين، وكذلك دول آسيا الوسطى القريبة جغرافياً من روسيا. هناك العديد من الدراسات تتحدث عن أن التحالف كان مهزوما منذ 2011 أو 2012، أي أنّهم يأسوا من تحقيق أهدافهم الإستراتيجية في أفغانستان، ولكن الإنسحاب تم بهذا الشكل، ليس لأنه كان لديهم أمل بالانتصار، ولكن لأن هناك معطيات جغرافية كانت تفرض عليهم أن يتواجدوا بهذا الشكل في وسط آسيا لمنع الربط بين شعوب المنطقة بشكل واضح. ويتمثل الوجه الآخر في تخلّي أمريكا عن حلفائها، فحسب العديد من التسريبات أو تصريحات المسؤولين في المنطقة العربية أو في اليمن بحد ذاته حيث أعلن بعض مسؤولي المرتزقة بأن هذا الإنسحاب يعطي صورة سيئة أمام حلفاء أمريكا، فإن أمريكا قامت بالتخلي عنهم؛ حتى أنّ بعض المعلّقين الصهاينة قالوا أيضاً بأن الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان كان سيئاً ، حتى ولو كان ضمن خطة معينة، لأنه أعطى الصورة بأن الولايات المتحدة تقوم بالانسحاب من المنطقة حتى لو كان لديها خطّة أخرى.
كذلك، وبناءً على اتفاقيات التعاون التي تحصل الآن بين دول المنطقة المحيطة بأفغانستان، يمكننا القول بأن الوضع الراهن مفيد لمحور المقاومة على جميع الأصعدة، من الناحية الاقتصادية والتجارية ومن الناحية السياسية أيضاً، ومن ناحية صورة الهيمنة والإستكبار في المنطقة والتي تضررت كثيرا جرّاء الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان.
العراق
وأما الإنسحاب الأمريكي من العراق. تحاول أمريكا الخداع والبقاء والمحافظة على صيغة وجود قوات تحت تسمية مستشارين وغيره في العراق، ولكن ليس لأنّها تريد أن تحترم سيادة العراق، وقد أثبتت أنها لا تحترمها أبداً، وتنتهز الفرص كي تقلّل من سيادة العراق، بل كي تحافظ على هذا الوجود؛ ولكن لماذا قامت بذلك؟ لأنها تخاف من رد الفعل لدى الشعب العراقي ورد الفعل لدى فصائل المقاومة التي أعلنت أنها ستعتبر هذه القوات قوات الاحتلال بعد انتهاء موعد الانسحاب. تدرك أمريكا هذه الخطوط الحمراء التي وضعتها المقاومة، وتقوم بالبناء عليها وتحاول أن تبقى بهذا الشكل غير المعلن، ولن تكون قادرة إن شاءالله، حيث أنّ فصائل المقاومة قد توعدت بتنفيذ تهديداتها. أمريكا تخاف وتحسب الحسبان لتهديدات المقاومة العراقية وفصائلها، وهذا بحد ذاته إنجاز بالمقارنة مع الفترة السابقة.
سوريا
سوريا هي طرف آخر في محور المقاومة، وهي نقطة محورية جغرافياً للوصل بين مختلف أفرقاء هذا المحور أو بين حلف القدس. سوريا التي تعرّضت منذ العام 2011 لحملات ليس فقط من ناحية دعم مسلحين داخل حدودها من أجل قيام بإسقاط الدولة في سوريا المؤيدة والمشاركة بشكل قوي في محور المقاومة، بل أيضاً عبر حملات التهديد المستمرة بالضرب العسكري الغربي المباشر للدولة في سوريا من خلال افتعال الأكاذيب والإدعاء بأن الدولة في سوريا قامت باستخدام الأسلحة الكيمياوية، فقد أثبتت التقارير اللاحقة أنها كانت مجرد أكاذيب وإدعاءات. سوريا التي انتصرت في هذه الحرب بشكلٍ لا لِبسَ فيه، وقامت بالسيطرة على المرافق الأساسية مازالت تتعرض للحصار كما مختلف أفرقاء محور المقاومة، ولكن القيادة السورية لطالما أكدت على وقوفها في محور المقاومة رغم كل هذه التحديات. هناك تحديات أساسيّة تواجهها سوريا في هذا الحين وهي التواجد الأمريكي في الشرق السوري والذي يقوم بحرمان الدولة من العديد من مواردها الطبيعية كالقمح والنفط والغاز، حيث توجد هناك معظمها؛ أي هو يقوم بالسّطو عليها بشكل علني. ومن ناحية أخرى هناك محاولة تطبيع العلاقات مع الدول التي قامت بتطبيع علاقاتها مع الاحتلال الصهيوني كالإمارات. على سبيل المثال، الزيارة الإماراتية الأخيرة التي قام بها مسؤولون إماراتيون إلى سوريا في محاولة لجر سوريا بعيداً عن محور المقاومة عبر أساليب ملتوية بالمقارنة مع محاولات تطبيع العلاقات في السابق. هذه الدول هي التي شاركت بشكل مباشر بدعم المسلحين ومحاولة إسقاط الدولة السورية. الدولة في سوريا، وعلى الرغم من أنها قامت باستقبال هذا الوفد الإماراتي ولكن هناك العديد من الإشارات التي تؤكّد أن الدولة تقوم بالمحافظة على موقفها الثابت من المقاومة كونها نقطة محورية، ليس فقط في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي باعتبارها دولة «طوق»، ولكن باعتبارها صلة وصل بين مختلف أفرقاء هذا المحور.
هناك العديد من الإشارات تقول بأن العمل ضد القوات الغربية الموجودة في سوريا، والتي تقوم بالسيطرة على الثروات الطبيعية هناك، سيبدأ بالتوازي مع العمل ضد القوات الأمريكية الموجودة في العراق أيضاً نظراً لما نعرفه من ترابط الساحتين جغرافياً وبشرياً وشعبياً. إننا نسمع كل فترة عن عمليات قصف صاروخي للقواعد الأمريكية في الشرق السوري، ويمكننا القول أن عملية تحرير الشرق السوري من التواجد الغربي وإستعادة الدولة السورية قدراتها هناك ستكون بدايةً لتعزيز أكبر لقدرات محور المقاومة وتعزيز صمود سوريا في وجه هذا الحصار، وهناك توجه لذلك ولو بشكل غير واضح كما يظهر بالمقارنة مع جبهات أخرى.
كسر هيبة الإستكبار
عوداً إلى نقطة كنت قد ذكرتها سابقاً، وهي أنه لا يمكن أن نَحكم على مُنجزات فترة معينة أو حدث معين دون المقارنة مع نقطة قياسية أخرى. أي أنّه يمكننا القول إن وضع محور المقاومة أفضل بعشرات المرات مقارنة مما كان عليه في الفترة السابقة، لأن هذا المحور قام بكسر الردع الإسرائيلي. أنّ الكيان الصهيوني عاجز حتى عن مهاجمة غزة في الوقت الراهن، وهو يحسب لها ألف حساب حتى في ردوده. يقول المعلقون الإسرائيليون بأنه من يريد الرد يجب أن لا يعطي إنذارات، هذه إشارات بسيطة ولكن ذات دلالات عميقة جداً. كانت إسرائيل تهدد بالهجوم على كل من يتعرض لها يميناً ويساراً، ولكنها عاجزة الآن عن التدخل بالشّكل السابق حتى مع قطاع غزّة الذي يعدّ أصغر الأفرقاء، من الناحيتين العملية والمادّية، في محور المقاومة.
يمكن القول أنّه قد تم كسر الهيبة، كسر الإستكبار الإسرائيلي أو عامل الخوف الذي كانوا يستعملونه بشكل مستمر من أجل التأثير على شعوبنا وسلب إرادتهم وأملهم بمواجهة هكذا كتلة غربية عالمية كبيرة جداً. هذه الصورة تتكسر تدريجياً ببركة دماء الشهداء وعلى رأسهم الشهيد “الحاج قاسم سليماني” و”الشهيد أبو مهدي المهندس”. “الحاج قاسم” كان من مخططي ومهندسي بنية حلف القدس أو بنية محور المقاومة هذه التي تقض مضاجع الأمريكيين في المنطقة، وليس هذا بأمر جديد. هذا المحور القوي الذي يزداد صلابةً يوما بعد يوم في هذه المعركة ببركة دماء الشهداء، يعزّز أيضاً من تحالفه وترابطه الجغرافي والبشري والعلمي والتقني. قد يحصل هناك بعض التراجع في فترة معينة على جبهة معينة، يجب أن لا نفقد الأمل، يجب أن لا ننسى بأننا من النقطة التي إنطلقنا بها منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ومنذ الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، أين كنا وأينا أصبحنا. إنها فترة تصاعدية باستمرار. يجب أن لا ننسى بأننا ننطلق كمقاومين وكثوار على هذا النظام العالمي الإستكباري من نقطة هي أضعف مادياً من الطرف الآخر، ولكنها أغنى من الناحية الروحية والمعنوية، ومن ناحية الإرادة والشجاعة، ومن ناحية الإصرار والإيمان بالقضية والإيمان بحق شعوبنا في الحياة والعيش بكرامة.
الكاتب: علي جزيني
1
ولكن الأمر الأكيد أنه من الناحية الكمية، قلّلت القوات الأمريكية وجودها في غرب آسيا، بدايةً من أفغانستان وحتى من العراق. وكما نعلم، إنّ الاتفاقية الأمنية المُعلنة بين التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والعراق انتهت في 31 من شهر كانون الأول، وقد توعّدت العديد من فصائل المقاومة العراقية بمواجهة أي تواجد لهذه القوات دون الإنجرار وراء التسميات التي تحاول هذه القوات أن تعطيها لنفسها بأنها إستشارية وليست قتالية وما إلى ذلك. لذلك، يمكننا القول أنّ الأهداف الأساسية التي أرادت أمريكا تحقيقها من اغتيال “الحاج قاسم سليماني” ورفاقه لم تتحقق من الناحية العملية، وهنا ننتقل إلى الجانب التفصيلي على مختلف الجبهات في المنطقة لنتثبت مما حصل.
فلسطين
بدايةً في فلسطين، فلسطين المحور والقضية. يمكن القول بأن ما حدث في فلسطين، وبشكل خاص خلال السنة الماضية، هو مهم جداً من الناحية الإستراتيجية. أي بدأت القضيّة بمحاولة تهجير الاحتلال للإخوة الفلسطينيين من حي “الشيخ جراح” لتتمكّن المقاومة في غزة من استعادة القرار والكلمة الفلسطينية؛ هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فرضت المقاومة الفلسطينية عملية ردع على الاحتلال الإسرائيلي نفسه؛ أي إيقاف الحرب بوقت قياسي إذا ما نظرنا للسنوات السابقة، وعدد الشهداء الذي كان يحصيه الاحتلال، وقد حصل ذلك بشكل أساسي، ليس فقط بسبب المعادلة التي فرضتها المقاومة عبر قصف المدن والتجمعات الرئيسية التي تحتوي على العدد الأكبر من النخبة الإدارية أو الذين يتمتعون بمستوى دخل عالٍ في تل أبيب ومحيطها، ولكن أيضاً عبر فرض ردع معين تبين من كلمات المُعلقين الصهاينة ومفكريهم بعد الحرب إذ أنهم قالوا بأن القائد “السنوار” في غزة خرج يلقي خطاب النصر وكأنه لا يخاف من الكيان الصهيوني. يمكن أن نستشرف العقلية التي تصرف بها الكيان الصهيوني بموضوع الخوف، فهو يعتمد على الخوف من أجل ترهيب شعوبنا العربية والإسلامية. المقاومة هنا إستعادت من العدو هذا السلاح، أو سلاح الخوف، أصبحت هي من تمتلكه، أي القدرة على ردع العدو، والظهور بمظهر غير المرتدع من العدو أمام مستوطنيه.
إذن أفقدت المقاومة بشكل أو بآخر ثقة المستوطنين بقياداتهم العسكرية، وبناءً على إستطلاع رأي جرى قبل عدة أيام تبيّن أكثر المستوطنين يعتقدون أن جيش الاحتلال لم يتمكن من فرض حسم عسكري منذ فترة طويلة جداً. هذا عنصر جديد جداً. العنصر الثالث في المعادلة كان خطر دخول أو توسع المعركة التي حصلت في غزة، في معركة “سيف القدس”، أي دخول أطراف أخرى من محور المقاومة كما أعلن قادة المقاومة في غزة في خطاب الانتصار بأن هناك العديد من الأطراف التي كانت جاهزة وطلبت من المقاومة الإستعانة بها عند الحاجة، وليس فقط الجبهات التقليدية في لبنان وسوريا، بل أيضاً في اليمن حيث دخل الإخوة اليمنيون بشكل مباشر على خط النار. يمكننا أن نشير إلى عدّة إنجازات: أولاً فرض المقاومة معادلة ردع الاحتلال الإسرائيلي، وثانياً سحب بساط توازن الرعب من تحت قدمي الاحتلال الإسرائيلي وثالثاً فرض نفسها كمتحدث بإسم الشعب الفلسطيني وأيضاً هناك قسم رابع وهو تعزيز الترابط العضوي الموجود بين مختلف أفرقاء المقاومة حيث وصل لمستوى غير مسبوق.
اليمن
وأما فيما يخض اليمن، فقد أعلن اليمنيون إستعدادهم للمشاركة في معركة “سيف القدس” العام الماضي وهنا تبرز سابقة. اليمن كما نعلم، قبل الثورة اليمنية وقبل العدوان الذي تعرض له، كان بحكم موقعه الجغرافي بعيداً عن ساحة المواجهة مع العقدة الأساسيّة لسيطرة الإستكبار الغربي في منطقتنا، أي الكيان الصهيوني. ولكنهم اليوم تجاوزا الأمر على الرغم من هذا البُعد، وعلى الرغم أيضاً من كل الحصار الذي يتعرضون له، والحرب الضروس التي يخوضونها مع العدوان السعودي-الأمريكي. فقد أعلنوا إستعدادهم للمشاركة في معركة “سيف القدس” ليس فقط بشكل عسكري، بل أعلنوا إستعدادهم لإرسال مساعدات إنسانية إلى الإخوة في غزة، وقد أثبتوا بذلك أنهم في الصفوف الأولى للمقاومة في منطقتنا.
هذا يعني إستمرارهم بالصمود وهو بحد ذاته انتصار. هل يمكن أن تتخيلوا حجم التغيّر الجغرافي السياسي في المنطقة إذا ما انتصر اليمن إنشاءالله؟ حينها ستتبدّل المعادلات بأسرها، وستُحرم القوات الغربية، وبحكم الموقع الإستراتيجي لليمن، من حرية العمل في البحار المطلة على منطقتنا العربية الإسلامية، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى ستتوفر قاعدة أساسية لدعم المقاومة في المنطقة. لا يقتصر التغيير على الناحية الإقليمية فحسب، وإنما على المستوى الدولي. هذا البلد الذي لطالما كان من أفقر الدول المضطهدة التي كان مقدّرا لها بحسب هذا النظام العالمي أن تبقى مستعبدةً لهذا النظام وتبقى فقيرةً، قام بالثورة ورفض كل هذه الظروف التي كان يضعها العالم الغربي، قائلاً: أنا أريد أن أصبح طرفاً في هذا المحور، أنا أريد أن أشارك بقضايا أهل المنطقة، ولا أريد أن أنعزل عن القضايا الأساسية وعلى رأسها قضية فلسطين. لقد دخلوا من هذا الباب الأساسي، أي أنهم لم ينتظروا كي ينتصروا في الحرب، ولكن في خضم الحرب والحصار، أعلنوا جهوزيتهم للدخول وهذا تغيّر نوعي، وفي العام المقبل سنرى إن شاء الله تغيرّات نوعية بسبب صمود اليمنيين وتقدمهم على الجبهات. المتحدث باسم القوات اليمنية أعلن تحرير 12250 كيلومتر مربع في العالم الماضي، وإنجازات الشّعب اليمني تتحدّث عن نفسها، ولسنا نحن بحاجة لتعدادها. إذن، انتصارات المقاومة في اليمن وإنجازاتها في حالة تصاعدية تدريجياً وسنرى إن شاءالله تغيرات جذرية وإنجازات ملموسة بشكل أكبر وأكثر وضوحاً في اليمن عام 2022.
أفغانستان
وأما فيما يخص موضوع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والذي كان له وقع شديد على حلفاء أمريكا في المنطقة. يحمل هذا الموضوع وجهين؛ وجه يتمثل بانسحاب القوات الأمريكية من منطقة كانت تعتبرها إستراتيجية، ولم تدخلها بسبب أهدافها المعلنة في عام 2001 للقضاء على تنظيم القاعدة، ولكن للحصول على يد طولى، أو هذا ما تخيلوه، وذلك بهدف التأثير على الدول المحيطة كإيران والصين، وكذلك دول آسيا الوسطى القريبة جغرافياً من روسيا. هناك العديد من الدراسات تتحدث عن أن التحالف كان مهزوما منذ 2011 أو 2012، أي أنّهم يأسوا من تحقيق أهدافهم الإستراتيجية في أفغانستان، ولكن الإنسحاب تم بهذا الشكل، ليس لأنه كان لديهم أمل بالانتصار، ولكن لأن هناك معطيات جغرافية كانت تفرض عليهم أن يتواجدوا بهذا الشكل في وسط آسيا لمنع الربط بين شعوب المنطقة بشكل واضح. ويتمثل الوجه الآخر في تخلّي أمريكا عن حلفائها، فحسب العديد من التسريبات أو تصريحات المسؤولين في المنطقة العربية أو في اليمن بحد ذاته حيث أعلن بعض مسؤولي المرتزقة بأن هذا الإنسحاب يعطي صورة سيئة أمام حلفاء أمريكا، فإن أمريكا قامت بالتخلي عنهم؛ حتى أنّ بعض المعلّقين الصهاينة قالوا أيضاً بأن الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان كان سيئاً ، حتى ولو كان ضمن خطة معينة، لأنه أعطى الصورة بأن الولايات المتحدة تقوم بالانسحاب من المنطقة حتى لو كان لديها خطّة أخرى.
كذلك، وبناءً على اتفاقيات التعاون التي تحصل الآن بين دول المنطقة المحيطة بأفغانستان، يمكننا القول بأن الوضع الراهن مفيد لمحور المقاومة على جميع الأصعدة، من الناحية الاقتصادية والتجارية ومن الناحية السياسية أيضاً، ومن ناحية صورة الهيمنة والإستكبار في المنطقة والتي تضررت كثيرا جرّاء الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان.
العراق
وأما الإنسحاب الأمريكي من العراق. تحاول أمريكا الخداع والبقاء والمحافظة على صيغة وجود قوات تحت تسمية مستشارين وغيره في العراق، ولكن ليس لأنّها تريد أن تحترم سيادة العراق، وقد أثبتت أنها لا تحترمها أبداً، وتنتهز الفرص كي تقلّل من سيادة العراق، بل كي تحافظ على هذا الوجود؛ ولكن لماذا قامت بذلك؟ لأنها تخاف من رد الفعل لدى الشعب العراقي ورد الفعل لدى فصائل المقاومة التي أعلنت أنها ستعتبر هذه القوات قوات الاحتلال بعد انتهاء موعد الانسحاب. تدرك أمريكا هذه الخطوط الحمراء التي وضعتها المقاومة، وتقوم بالبناء عليها وتحاول أن تبقى بهذا الشكل غير المعلن، ولن تكون قادرة إن شاءالله، حيث أنّ فصائل المقاومة قد توعدت بتنفيذ تهديداتها. أمريكا تخاف وتحسب الحسبان لتهديدات المقاومة العراقية وفصائلها، وهذا بحد ذاته إنجاز بالمقارنة مع الفترة السابقة.
سوريا
سوريا هي طرف آخر في محور المقاومة، وهي نقطة محورية جغرافياً للوصل بين مختلف أفرقاء هذا المحور أو بين حلف القدس. سوريا التي تعرّضت منذ العام 2011 لحملات ليس فقط من ناحية دعم مسلحين داخل حدودها من أجل قيام بإسقاط الدولة في سوريا المؤيدة والمشاركة بشكل قوي في محور المقاومة، بل أيضاً عبر حملات التهديد المستمرة بالضرب العسكري الغربي المباشر للدولة في سوريا من خلال افتعال الأكاذيب والإدعاء بأن الدولة في سوريا قامت باستخدام الأسلحة الكيمياوية، فقد أثبتت التقارير اللاحقة أنها كانت مجرد أكاذيب وإدعاءات. سوريا التي انتصرت في هذه الحرب بشكلٍ لا لِبسَ فيه، وقامت بالسيطرة على المرافق الأساسية مازالت تتعرض للحصار كما مختلف أفرقاء محور المقاومة، ولكن القيادة السورية لطالما أكدت على وقوفها في محور المقاومة رغم كل هذه التحديات. هناك تحديات أساسيّة تواجهها سوريا في هذا الحين وهي التواجد الأمريكي في الشرق السوري والذي يقوم بحرمان الدولة من العديد من مواردها الطبيعية كالقمح والنفط والغاز، حيث توجد هناك معظمها؛ أي هو يقوم بالسّطو عليها بشكل علني. ومن ناحية أخرى هناك محاولة تطبيع العلاقات مع الدول التي قامت بتطبيع علاقاتها مع الاحتلال الصهيوني كالإمارات. على سبيل المثال، الزيارة الإماراتية الأخيرة التي قام بها مسؤولون إماراتيون إلى سوريا في محاولة لجر سوريا بعيداً عن محور المقاومة عبر أساليب ملتوية بالمقارنة مع محاولات تطبيع العلاقات في السابق. هذه الدول هي التي شاركت بشكل مباشر بدعم المسلحين ومحاولة إسقاط الدولة السورية. الدولة في سوريا، وعلى الرغم من أنها قامت باستقبال هذا الوفد الإماراتي ولكن هناك العديد من الإشارات التي تؤكّد أن الدولة تقوم بالمحافظة على موقفها الثابت من المقاومة كونها نقطة محورية، ليس فقط في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي باعتبارها دولة «طوق»، ولكن باعتبارها صلة وصل بين مختلف أفرقاء هذا المحور.
هناك العديد من الإشارات تقول بأن العمل ضد القوات الغربية الموجودة في سوريا، والتي تقوم بالسيطرة على الثروات الطبيعية هناك، سيبدأ بالتوازي مع العمل ضد القوات الأمريكية الموجودة في العراق أيضاً نظراً لما نعرفه من ترابط الساحتين جغرافياً وبشرياً وشعبياً. إننا نسمع كل فترة عن عمليات قصف صاروخي للقواعد الأمريكية في الشرق السوري، ويمكننا القول أن عملية تحرير الشرق السوري من التواجد الغربي وإستعادة الدولة السورية قدراتها هناك ستكون بدايةً لتعزيز أكبر لقدرات محور المقاومة وتعزيز صمود سوريا في وجه هذا الحصار، وهناك توجه لذلك ولو بشكل غير واضح كما يظهر بالمقارنة مع جبهات أخرى.
كسر هيبة الإستكبار
عوداً إلى نقطة كنت قد ذكرتها سابقاً، وهي أنه لا يمكن أن نَحكم على مُنجزات فترة معينة أو حدث معين دون المقارنة مع نقطة قياسية أخرى. أي أنّه يمكننا القول إن وضع محور المقاومة أفضل بعشرات المرات مقارنة مما كان عليه في الفترة السابقة، لأن هذا المحور قام بكسر الردع الإسرائيلي. أنّ الكيان الصهيوني عاجز حتى عن مهاجمة غزة في الوقت الراهن، وهو يحسب لها ألف حساب حتى في ردوده. يقول المعلقون الإسرائيليون بأنه من يريد الرد يجب أن لا يعطي إنذارات، هذه إشارات بسيطة ولكن ذات دلالات عميقة جداً. كانت إسرائيل تهدد بالهجوم على كل من يتعرض لها يميناً ويساراً، ولكنها عاجزة الآن عن التدخل بالشّكل السابق حتى مع قطاع غزّة الذي يعدّ أصغر الأفرقاء، من الناحيتين العملية والمادّية، في محور المقاومة.
يمكن القول أنّه قد تم كسر الهيبة، كسر الإستكبار الإسرائيلي أو عامل الخوف الذي كانوا يستعملونه بشكل مستمر من أجل التأثير على شعوبنا وسلب إرادتهم وأملهم بمواجهة هكذا كتلة غربية عالمية كبيرة جداً. هذه الصورة تتكسر تدريجياً ببركة دماء الشهداء وعلى رأسهم الشهيد “الحاج قاسم سليماني” و”الشهيد أبو مهدي المهندس”. “الحاج قاسم” كان من مخططي ومهندسي بنية حلف القدس أو بنية محور المقاومة هذه التي تقض مضاجع الأمريكيين في المنطقة، وليس هذا بأمر جديد. هذا المحور القوي الذي يزداد صلابةً يوما بعد يوم في هذه المعركة ببركة دماء الشهداء، يعزّز أيضاً من تحالفه وترابطه الجغرافي والبشري والعلمي والتقني. قد يحصل هناك بعض التراجع في فترة معينة على جبهة معينة، يجب أن لا نفقد الأمل، يجب أن لا ننسى بأننا من النقطة التي إنطلقنا بها منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ومنذ الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، أين كنا وأينا أصبحنا. إنها فترة تصاعدية باستمرار. يجب أن لا ننسى بأننا ننطلق كمقاومين وكثوار على هذا النظام العالمي الإستكباري من نقطة هي أضعف مادياً من الطرف الآخر، ولكنها أغنى من الناحية الروحية والمعنوية، ومن ناحية الإرادة والشجاعة، ومن ناحية الإصرار والإيمان بالقضية والإيمان بحق شعوبنا في الحياة والعيش بكرامة.
الكاتب: علي جزيني
1
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال