يحلو للبعض في بدايات كل عام أن يشغل ذهنه في توقعات القادم، وأن يُغيّب فكره في انتظار مفاجآت الأيام وتقلباتها. ويخيل للبعض أن ينبش الماضي، ليس بحثًا عن إلهام، لكن هروبًا من واقع صار كقطع الليل المظلم، وأوضاع معيشية واقتصادية مأساوية، نمر بها في منطقتنا العربية خصوصًا. ورغم أن الماضي يحمل في طياته مفاتيحَ للنجاة، إلا أن المرء قد يغرق في بئر سحيقة من الوهم والتشوش والارتباك، ناتجة بالأساس عن تلك الرغبة المحمومة في الهرب.
ربما يحتفظ التاريخ الإنساني بكثير من التبجيل والفخر وفي أنصع صفحاته بالعديد من قصص الفداء وحكايات الثوار النبلاء، وربما اختلطت الكثير من تلك الروايات بالأساطير على مر السنوات والقرون، وربما أضاف المؤرخون والحكاؤون الكثير من توابل التشويق في سردهم للأحداث والمواقف والشخصيات، لكن المؤكد هو أن الذروة العالية لفصل الفداء سيبقى الإمام الحسين -ع- وسيظل الصدق والحق في الرواية إحدى أبهى حللها وعناوينها.
ومع مرور القرون الطويلة منذ وقعت فاجعة كربلاء، إلا أن قوة النموذج الإيماني والإنساني الذي قدمه الإمام قد منحها الخلود، ووهب ثلة صغيرة من الصادقين أولي العزم البقاء الأبدي، ورزقهم الله الحياة الطويلة، يحمل المؤمن رسالتهم ويتمسك بسيرتهم، ثم يتمثل مواقفهم وعظيم تضحياتهم، كلما ألمت به النوازل أو أرهقته المقادير ومجابهة التحديات اليومية. وفضلًا عن آل البيت عليهم السلام، ممن قدموا أرواحهم في هذا اليوم، فإن الذاكرة الجمعية احتفظت لنا بكل اسم اعتبر نفسه قربانًا للحق وقربى يقدمها في إخلاص، قيامًا بحق رسول الله في ذريته.
اليوم وأمس وغدًا، يقف التاريخ الإنساني شاهدًا ومعتبرًا، في آن، وراسما جلال الموقف ونبله، كأعظم ما سجل الحق وفي أروع صفحاته، وترن بين سطورها كلمات الإمام الخالدة “إلا من كان باذلًا فينا مهجته”، كتبيان للثمن الباهظ المرادف لهذا الاختيار، وفي الوقت ذاته، قدرته على أن يفوق قدرات الوعي وحدود المنطق وحساباته، واضعًا السبل أمام كل من يرى الواقع ويغرق في تحدياته، لا يستطيع ولا يرغب في المواجهة، ثم إن أجبره الظرف على الوقوف، سرعان ما يستهول التضحيات ويضن بها، رغم البؤس واليأس الشديدين...إذا كانت ملحمة الإمام الحسين(ع) تنتمي إلى ماضٍ نستعيده ونأنس به، فإن الأيام والتحديات قائمة دائمًا. هناك ألف يزيد في كل عصر، والملايين من أتباعه منتشرون وفاعلون ومتسابقون على حظوة أو جاه، وقوة الشر حاضرة ولا تزال تسعى إلى انتصار يجتث رقبة الحق والصدق والإيمان، من القلوب والنفوس، ولا تترك بالتالي وراءها إلا الهزيمة.
تعيش الأمة العربية خلال السنوات الحالية ما يمكن تعريفه بأنه أيام فارقة، قواعد كثيرة تغيرت، وأحوال قائمة تبدلت، وعلاقات دولية ظهرت عليها ملامح الصدام وصبغتها الخشونة البالغة عند القمة، وفوران يمور دونها، وكلها انعكست على المنطقة العارية من إرادة جماعية وفاعلة، ونظم حكم معظمها -إن لم يكن الكل- تتحرك فوق حقل ألغام لا نهائي، وفضلًا عن التهديد الخارجي فهي تمتلك ما يكفيها ويفيض من أزماتها الداخلية السافرة.
ومع ذكرى الاغتيال الإجرامي المتوحش للقائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، يمكن للمتابع المشغول أو المراقب المهتم أن يعيد في مشاهد الأيام والسنوات القليلة الماضية، ليكتشف تغيرًا عميقًا وجذريًا، نشأ وتمدد في قلب الصراع مع القوة العظمى الوحيدة، والتي شاخت وبدأ الضعف والتردد يضرب أصابعها والارتعاش يستولي على مفاصلها وأعصابها، والمشهد الأول لهذا الانقلاب في الأوضاع والمواقف يمكن رده -بالكامل- إلى اللحظة التي غردت فيها صواريخ الحرس الثوري للجمهورية الإسلامية فوق قاعدة عين الأسد الأميركية بالعراق.
هذه اللحظة تحديدًا، وكانت لحظة ثأر كانت قادرة على انتشال أمة بكاملها من سيطرة الهزيمة، والانفتاح إلى عصر جديد، تعمد بالدماء الزكية الطاهرة لقادة تقدموا الصفوف، وبحثوا عن الشهادة، وكانوا في كل حياتهم نموذجًا حسينيًا للفداء.
لن يأخذنا الحديث إلى عمق الثأر الإيراني، جزاءً وفاقًا على الجريمة المروعة، بل إن الوضع الأميركي في الإقليم يهدد بمثل ما لم يتهدد من قبل، وقواعدهم في سوريا، كما العراق، لم يعد لها قدسية الحماية، بل تزيدنا الأنباء -كل يوم تقريبًا- عن قصف هنا وهناك، يكسر من الهيبة الأميركية ويجتزئ منها ومن فرص استمرارها فاعلًا أول في منطقتنا، ويعجل من خروجها، وهو بذاته كان حلمًا بعيد المنال قبل 3 أعوام.
الكتابة هي محاولة لتأطير، أو حتى تخليد، شخصية أو لحظة فارقة في التاريخ، وبالتالي محاولة التركيز على الجمال، في شخصيات ولحظات هي بذاتها خلاصة الجمال والعظمة والبهاء، فعل الله المباشر في الأرض حين يعز الفعل ويعجز، وكان من حسن الحظ أننا عايشناها وهي -مجردة- كانت كافية لتنور الحياة كلها، تحية إلى القائد سليماني والحاج المهندس، في ذكرى الارتقاء، وتحية كل واقف على الدرب يستكمل المسيرة العسيرة لنفي هذا الشيطان الأميركي من مدننا وبلادنا وأوطاننا.
باختصار شديد، غير مخل، فإن العملية الأميركية الخسيسة، والدم الزكي المسفوح من قبله ومن بعده، صنعه أبطال خيط نوراني من الأرواح الطاهرة، ممدود من الأرض إلى السماء، لا تقول بغير حقيقة واحدة واضحة وضوح الشمس، وهي أن الإرادة مع الفوران العاطفي لقضية مقدسة، لا يستلزمه إلا بعض التخطيط والقليل جدًا من الإصرار، والمزيد من خطابات الدعم المعنوي للأمة العربية كلها، وتتحول الحالة من فوران إلى فعل حقيقي على الأرض، قادر على فرض حقيقة واقعة جديدة، عنوانها الأول إن عصر التحرير قد بدأ.
أحمد فؤاد
0
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال