إن العمل الإرهابي الذي قامت به الإدارة الأمريكية في اغتيال الشهيد سليماني، على الرغم من إلحاقه خسارة لا يمكن تعويضها بالعالم بأسره، لم يدفع خطط واشنطن الى الامام بأي شكل من الأشكال. و إن أسطورة “الشهيد سليماني” لم تكتف بإفشال مخططات أمريكا للشرق الأوسط فحسب، بل سيكون لها أيضا حياة أبدية وتأثير لا نهاية له سيتجاوز الجوانب الإنسانية لـ “الحاج قاسم”.
وفي هذا السياق، اكد الخبير الأسترالي تيم أندرسون، في مقال بعنوان “إرث سليماني”، أن ما أراد العدو تحقيقه من خلال اغتيال سليماني كان مختلفًا تمامًا عما تحقق بالفعل. و فيما يلي مقال تيم أندرسون.
اعتقد عدو [الأمريكي – الصهيوني] الدول الحرة والمستقلة في العالم أن اغتيال قاسم سليماني سيعيد إحياء خططه الفاشلة للسيطرة على الشرق الأوسط. وكان يأمل بهذا الاغتيال في خلق المزيد من الانقسامات بين الشعوب، وفصل رأس محور المقاومة عن جسده، ليكون بذلك امبراطور العالم.
ان مقتل سليماني، تسبب بالتأكيد في الكثير من الألم والحزن؛ فمهما كان الامر، كان لديه الكثير من الخبرة في هذا المجال؛ لكن محاولاتهم لدفع محور المقاومة الى الانحراف والانقسام هُزمت بشدة.
وبدلاً من اليأس والارتباك، أظهر هذا المحور ردة فعل ضمنت وحدة مختلف عناصر المقاومة ووفر الأرضية لطرد العدو من المنطقة. لا تزال أسطورة سليماني هي المحور الرئيسي لهذا الحدث.
ربما كان يتخيل العدو أنه من خلال الإطاحة بسليماني، هذا القائد الإقليمي الفريد، سيصاب التحالف الإقليمي(المقاومة) بخيبة أمل ويضيع طريقه. لم يكن سليماني مجرد قائد. بل كان أيضا معلماً. وكان معلماً منذ بداية حرب صدام المدعومة من أمريكا ضد إيران. كان إرثه خلال 40 عاما هو ظهور العديد من القادة في جميع أنحاء المنطقة.
كان الخوف الأكبر لواشنطن ومكتبها الإقليمي في تل أبيب هو أن أعضاء محور المقاومة سوف يتحدون بعد هزيمة الجماعات الطائفية المدعومة من الناتو في سوريا والعراق. كابوسهم هو رؤية تحالف من القوى المتمرسة لحزب الله ، والجيش العربي السوري ، والحشد الشعبي العراقي ، وفيلق القدس الإيراني يخرج على الحدود مع فلسطين المحتلة ، ويستعد لتحرير هضبة الجولان في سوريا والضغط من أجل تحرير فلسطين من نظام الفصل العنصري الصهيوني.
لهذا السبب انتهزت واشنطن (بعد غزو أفغانستان والعراق ولبنان) في عام 2011 الفرصة لدعم جماعة الإخوان المسلمين والإرهاب الوهابي في ليبيا وسوريا ، وتبنت سياسة توجت بالإطاحة بالحكومة الليبية وقيام داعش بالاعلان عن تشكيل “دولة إسلامية” في شرق سوريا. اضعاف وتفكك سوريا يعني شطب دولة مستقلة من المعادلات، وكذلك المساعدة في الدفاع عن المستعمرة الصهيونية.
وفق تسريب استخباراتي صدر في أغسطس 2012 ، نعلم أن واشنطن توقعت ورحبت بـ “خلافة” داعش ؛ والقول بأن “إمكانية تشكيل حكومة سلفية رسمية أو غير رسمية … كان بالضبط ما تحتاجه القوات الموالية للمعارضة لاسقاط النظام السوري، وهو العمق الاستراتيجي للتوسع الشيعي (العراقي والإيراني)”. وهذا يعني أن “خلافة” داعش كان من المفترض أن تضعف وتفكك سوريا. مثلما كان تنظيم “القاعدة في العراق” يهدف الى اضعاف بغداد وخلق انقسامات بين العراق وايران.
الجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك، ونائب الرئيس آنذاك جو بايدن، على الرغم من خطابهم المخادع بشأن “مكافحة الإرهاب” ، اعترفا في خطابات منفصلة في أواخر عام 2014 بأن الحلفاء الرئيسيين لواشنطن ، وخاصة تركيا والسعودية وقطر والإمارات يمولون ويسلحون كل الجماعات الإرهابية الطائفية في سوريا للإطاحة بالحكومة. كانت الفلسفة الوجودية لكل هذه المجموعات هي “فرق تسد”.
في مواجهة حرب الوكالة هذه، مهد بطل المقاومة الإيراني قاسم سليماني، الطريق لروسيا لدخول سوريا في سبتمبر 2015 للدفاع عن الحكومة بشكل أكثر مباشرة. قاد سليماني بنفسه الحروب البرية ضد جبهة النصرة وداعش في سوريا والعراق. كان تحالف قوى المقاومة هذا شرطا اساسياً وضروريا لبقاء الشعوب المستقلة في المنطقة.
لعب سليماني دورا رئيسيا في الدفاع عن غزة ضد الهجمات الصهيونية الإجرامية، وفي الدفاع عن لبنان ، خاصة خلال الغزو الإسرائيلي عام 2006. حيث كشف ممثل حماس في لبنان أحمد عبد الهادي ، [بعد وقت قصير من اغتيال سليماني] ، أن قائد حزب الله عماد مغنية وقاسم سليماني كانا يزوران غزة بانتظام ويقودان خطة لبناء مئات الكيلومترات من الأنفاق كوسيلة للدفاع ضد الحصار والقصف المتكررة من قبل الصهاينة.
في مقابلة مهمة في عام 2019 ، تحدث سليماني عن دوره في مقاومة لبنان للهجوم الإسرائيلي عام 2006 ، قائلاً إن جزءًا من دافع تل أبيب لشن الهجوم هو أن “أكثر من 60 في المئة من الجيش الأمريكي … كان يتمركز في منطقتنا. وكان هناك أكثر من 150 ألف جندي أمريكي في العراق وحده وأكثر من 30 ألف جندي في أفغانستان. وبهذه الطريقة حاول الصهاينة استغلال هذا الوضع الذي بدا مواتياً لهم في الظاهر.
لكن حزب الله، بدعم واسع من أبناء جنوب لبنان، تمكن من وقف الغزو الصهيوني خلال 33 يوما. على الرغم من أسلحة تل أبيب المتطورة وتواطؤ العديد من الأنظمة العربية، كان الإسرائيليون عاجزين وتراجعوا بسبب تزايد الخسائر. كان سليماني حينها مسؤولاً عن دعم إيران اللوجستي والمعنوي للبنان.
ثم تولى هذا القائد في المقاومة قيادة عمليات مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء سوريا (من جبال القلمون إلى حلب إلى دير الزور) والعراق. حتى اعلن سليماني في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 الانتصار على داعش. وفي النهاية شكر قائد فيلق القدس الإيراني بتواضع آية الله الخامنئي على قيادته الحكيمة وتضحيات شعبي وحكومتي العراق وسوريا في قتالهما الشجاع ضد داعش. كما أشاد بحزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي “لدورهما الحاسم” في محاربة الجماعة الإرهابية.
وأشار سليماني إلى أن داعش ارتكب جرائم مروعة. “بما في ذلك قطع رؤوس الأطفال ، وسلخ الرجال أحياء أمام عائلاتهم ، واستعباد واغتصاب الفتيات والنساء الأبرياء ، وحرق الناس أحياء ، وذبح مئات الشباب”. بالإضافة إلى ذلك ، قامت المجموعة الإرهابية المدعومة من أمريكا والسعودية أيضا بتشريد الملايين ، مما تسبب في أضرار مالية جسيمة ، بما في ذلك المساجد ومواقع التراث العالمي. في كل هذه الجرائم كان تنظيم الدولة الإسلامية أداة العدو [الصهيوني الأمريكي].
تنتشر قوات الاحتلال الأمريكية الآن بشكل كامل في العراق وسوريا بذريعة محاربة داعش. إذا كان الأمريكيون صادقين في أهدافهم المعلنة ، لكان عليهم أن يذكروا سليماني كبطل. لكن بما أنهم هم أنفسهم أدوات نظام مخادع ، فقد رأوا أنه العدو الرئيسي لهم. ومع ذلك ، كانت شعوب المنطقة أكثر حكمة [وفهموا الحقيقة]. ظهر سليماني ورفاقه، بمن فيهم أبو مهدي المهندس في العراق ، وقادة آخرون في الجيش السوري مثل الجنرال عصام زهراء الدين ، وقادة حزب الله اللبناني ، ولا سيما السيد حسن نصر الله ، إلى جانب قادة حركة المقاومة الفلسطينية ظهروا كأبطال مكافحة الإرهاب والصهيونية والإمبريالية في المنطقة.
في غضون ذلك ، قرر الرئيس ترامب ، الذي كان غاضبًا نتيجة الغيرة والعجز، على الفور قتل كل من قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، شخصيتان بارزتان في مكافحة الإرهاب في إيران والعراق ورمزان بارزان للأخوة والتعاون بين البلدين الجارين. وفي وقت لاحق قالت ابنة قاسم سليماني ، زينب سليماني ، إن والدها “قام بعمله بشكل جيد” لدرجة أنه أغضب العدو. “لقد أنقذ الناس … ليس فقط في بلده … ولكن من أجل جميع البلدان … لقد قضى على داعش ، لأنه لم يكن يريد قتل الأبرياء في أوروبا بمثل هذا الفيروس الخطير … كان يقاتل من أجل الجميع.
تعكس وسائل الإعلام الغربية وجهات النظر الذهانية لحكوماتهم. حيث أقر الكثيرون بأن سليماني كان القائد الرئيسي في المنطقة في عمليات محاربة لداعش، لكنهم قالوا أيضا إن واشنطن كانت غاضبة من دور سليماني. وهكذا ، وصفت وسائل الإعلام السياسية لترامب وتل أبيب اغتيال سليماني بأنه “دفاع عن النفس” ، لكن “بي بي سي” وصفت اغتيال قاسم سليماني بأنه “بشرى سارة لجهاديي داعش”. وتحدثت قناة “بي بي اس” الامريكية عن “ارث سليماني المعقد في العراق.
كانت مراسم تشييع سليماني والمهندس ورفاقهم العراقيين مذهلة. لو كان هدف الرئيس ترامب إيذاء قلوب شعبي إيران والعراق ، لكان قد حقق ذلك الهدف. بدأت التجمعات الكبيرة في بغداد وانتشرت في جميع أنحاء العراق وإيران. وأعلن البلدان الحداد العام عدة أيام. ظهر حزن الناس للعالم. حاولت وسائل الإعلام الاستعمارية الأمريكية التقليل من اعداد الحضور، لكن معظمهم أقروا بأن الملايين قد حضروا المراسم.
أشارت بعض المصادر الغربية في تحليلها السياسي اللاحق إلى أن اغتيال سليماني كان “ضربة كبيرة لحزب الله” لأن المقاومة اللبنانية (التي تسميها واشنطن وتل أبيب “إرهابية”) تعتمد علانية على الدعم الإيراني.
بينما أعربت وسائل إعلام أمريكية أخرى عن قلقها من انتقام إيراني محتمل من قوات الاحتلال الأمريكية في المنطقة. كما لوحظت ردود الفعل داخل المنطقة، ولا سيما في العراق. حيث اجتمعت الفصائل المتخاصمة معا لأول مرة منذ سنوات. وقال رئيس وزراء العراق عادل عبد المهدي إن “اغتيال قائد عسكري عراقي يشغل منصبًا رسميًا هو اعتداء على العراق .. وقتل شخصيات عراقية بارزة أو من دولة شقيقة على الأراضي العراقية انتهاك صارخ للسيادة العراقية”.
وخلال أيام قليلة صوت البرلمان العراقي على اخراج جميع القوات الأمريكية من البلاد. كما ان شخصيات سياسية عراقية بارزة طالبت بإغلاق السفارة الأمريكية. مثل ما حدث بعد الثورة الإيرانية عام 1979. ورغم أن هذه الأحداث كانت صنيعة واشنطن، إلا أن بعض المراقبين السياسيين في الولايات المتحدة وصفوها بأنها “انتصار إيران الحقيقي”. جميع المحاولات التي استمرت عقودًا لتقسيم العراق وإيران أصبحت الآن في خطر. حيث تريد المقاومة الانتقام وكررت مطالب العراق بانسحاب القوات الأمريكية من المنطقة برمتها. كان هذا مستوى جديدًا من مطالب الرأي العام.
في 8 كانون الثاني / يناير ، كجزء من “عملية الشهيد سليماني”، شن الجيش الإيراني [فيلق القدس] ضربة صاروخية رمزية إلى حد كبير على قاعدة عين الأسد الجوية في العراق، التي تستضيفها القوات الجوية الأمريكية. كان هذا أول هجوم مباشر لإيران على القوات الأمريكية. قبل الهجوم ، كانت هناك تحذيرات ولم تقع إصابات، ولكن أفيد لاحقاً أن 110 جنود أمريكيين أصيبوا “بجروح دماغية”. ربما بسبب طبيعة الهجوم، وعلى الرغم من التوترات الشديدة ، لم ترد إدارة ترامب عليها.
سعت إدارة ترامب ، التي فشلت في حروب أفغانستان وسوريا واليمن ووحدت العراقيين ضدها، إلى مواصلة حملة “الضغوط القصوى” على إيران. تضمنت الحملة فرض حصار اقتصادي على جزء كبير من المنطقة وانتهاك الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة أوباما في عام 2015. أثارت تصرفات إدارة ترامب غضب حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين تجاه واشنطن ، على الرغم من أن الأوروبيين أظهروا أنهم لا يستطيعون التصرف بشكل مستقل عن البيت الأبيض.
من ناحية أخرى، تجد روسيا والصين، اللتان تحالفتا في السابق مع واشنطن في الحملة ضد برنامج إيران النووي، نفسيهما الآن عرضة لإجراءات قسرية أمريكية أحادية الجانب. بالإضافة إلى ذلك، ساعدت الهزيمة المتزايدة لحروب واشنطن في اطار مشروع “الشرق الأوسط الجديد” على توسيع دور كلا البلدين في المنطقة. وفي ديسمبر 2019 ، قبل وقت قصير من اغتيال سليماني والمهندس، أجرت روسيا والصين وإيران مناورات بحرية مشتركة في الخليج الفارسي. كانت المناورات رداً على مزاعم أمريكية كاذبة بأن إيران تشكل تهديداً للملاحة في المنطقة. وفي منتصف عام 2020 أيضاً، أعلنت الصين وإيران أنهما توصلتا إلى اتفاقية اقتصادية مدتها 25 عاماً بقيمة 400 مليار دولار تركز على الطاقة والبنية التحتية والتصنيع. ووقعت الصين وروسيا اتفاقيات اقتصادية مماثلة مع سوريا بالتوازي مع الاتفاقية مع إيران. لم يكن أي من هذا هو ما أراد العدو تحقيقه [ عبر اغتيال سليماني].
وخلص عدد من المحللين إلى أن اغتيال ترامب لسليماني كان له في الواقع تأثير معاكس. لم يقتصر الأمر على عدم خلق انقسامات في محور المقاومة فحسب، بل ساعد أيضا على توحيد هذا المحور. على الرغم من تركيز وسائل الإعلام الأمريكية على زيادة احتمالية حدوث مواجهة مباشرة بين إيران وأمريكا (وهو ما يريد الجانبان تجنبه) ، يشير المحللون الأكثر حكمة إلى أن تطلعات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط [نتيجة اغتيال سليماني] باتت بعيدة المنال الآن.
حيث يقول المحلل السوري البريطاني داني ماكي، إن إرث سليماني في سوريا سيستمر لأنه لا يزال هناك عشرات الآلاف من الجنود والعديد من القادة في سوريا الذين ساعد في تدريبهم وربما سيواصلون الطريق لتوسيع نفوذ وهيمنة ايران في جميع أنحاء الشرق الأوسط. كما كتب محسن صلحدوست، الخبير الإيراني الأسترالي، أن اغتيال سليماني أدى إلى ظهور فصائل مقاومة جديدة وهجماتها على القوات الأمريكية في العراق، وعلى أي حال، عززت مكانة إيران في المنطقة.
الحقيقة هي أن العدو خلق في صورة “الشهيد سليماني” أسطورة تحظى بشعبية كبيرة ستعيش أطول من كل القادة الحاليين للحكومات المعادية. وكما قالت زينب سليماني، “كان يعتقد الأعداء أنه بعد مقتل سليماني سينتهي كل شيء، لكنهم كانوا مخطئين تماماً. لم يروا الغضب في عيون الشعب الإيراني. لم يروا عيونهم. لم يروا حزنهم … هم مخطئون تماماً في الاعتقاد بأن هذه ستكون نهاية الجنرال سليماني. هذه بداية سليماني”.
المصدر: الوقت
0
وفي هذا السياق، اكد الخبير الأسترالي تيم أندرسون، في مقال بعنوان “إرث سليماني”، أن ما أراد العدو تحقيقه من خلال اغتيال سليماني كان مختلفًا تمامًا عما تحقق بالفعل. و فيما يلي مقال تيم أندرسون.
اعتقد عدو [الأمريكي – الصهيوني] الدول الحرة والمستقلة في العالم أن اغتيال قاسم سليماني سيعيد إحياء خططه الفاشلة للسيطرة على الشرق الأوسط. وكان يأمل بهذا الاغتيال في خلق المزيد من الانقسامات بين الشعوب، وفصل رأس محور المقاومة عن جسده، ليكون بذلك امبراطور العالم.
ان مقتل سليماني، تسبب بالتأكيد في الكثير من الألم والحزن؛ فمهما كان الامر، كان لديه الكثير من الخبرة في هذا المجال؛ لكن محاولاتهم لدفع محور المقاومة الى الانحراف والانقسام هُزمت بشدة.
وبدلاً من اليأس والارتباك، أظهر هذا المحور ردة فعل ضمنت وحدة مختلف عناصر المقاومة ووفر الأرضية لطرد العدو من المنطقة. لا تزال أسطورة سليماني هي المحور الرئيسي لهذا الحدث.
ربما كان يتخيل العدو أنه من خلال الإطاحة بسليماني، هذا القائد الإقليمي الفريد، سيصاب التحالف الإقليمي(المقاومة) بخيبة أمل ويضيع طريقه. لم يكن سليماني مجرد قائد. بل كان أيضا معلماً. وكان معلماً منذ بداية حرب صدام المدعومة من أمريكا ضد إيران. كان إرثه خلال 40 عاما هو ظهور العديد من القادة في جميع أنحاء المنطقة.
كان الخوف الأكبر لواشنطن ومكتبها الإقليمي في تل أبيب هو أن أعضاء محور المقاومة سوف يتحدون بعد هزيمة الجماعات الطائفية المدعومة من الناتو في سوريا والعراق. كابوسهم هو رؤية تحالف من القوى المتمرسة لحزب الله ، والجيش العربي السوري ، والحشد الشعبي العراقي ، وفيلق القدس الإيراني يخرج على الحدود مع فلسطين المحتلة ، ويستعد لتحرير هضبة الجولان في سوريا والضغط من أجل تحرير فلسطين من نظام الفصل العنصري الصهيوني.
لهذا السبب انتهزت واشنطن (بعد غزو أفغانستان والعراق ولبنان) في عام 2011 الفرصة لدعم جماعة الإخوان المسلمين والإرهاب الوهابي في ليبيا وسوريا ، وتبنت سياسة توجت بالإطاحة بالحكومة الليبية وقيام داعش بالاعلان عن تشكيل “دولة إسلامية” في شرق سوريا. اضعاف وتفكك سوريا يعني شطب دولة مستقلة من المعادلات، وكذلك المساعدة في الدفاع عن المستعمرة الصهيونية.
وفق تسريب استخباراتي صدر في أغسطس 2012 ، نعلم أن واشنطن توقعت ورحبت بـ “خلافة” داعش ؛ والقول بأن “إمكانية تشكيل حكومة سلفية رسمية أو غير رسمية … كان بالضبط ما تحتاجه القوات الموالية للمعارضة لاسقاط النظام السوري، وهو العمق الاستراتيجي للتوسع الشيعي (العراقي والإيراني)”. وهذا يعني أن “خلافة” داعش كان من المفترض أن تضعف وتفكك سوريا. مثلما كان تنظيم “القاعدة في العراق” يهدف الى اضعاف بغداد وخلق انقسامات بين العراق وايران.
الجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك، ونائب الرئيس آنذاك جو بايدن، على الرغم من خطابهم المخادع بشأن “مكافحة الإرهاب” ، اعترفا في خطابات منفصلة في أواخر عام 2014 بأن الحلفاء الرئيسيين لواشنطن ، وخاصة تركيا والسعودية وقطر والإمارات يمولون ويسلحون كل الجماعات الإرهابية الطائفية في سوريا للإطاحة بالحكومة. كانت الفلسفة الوجودية لكل هذه المجموعات هي “فرق تسد”.
في مواجهة حرب الوكالة هذه، مهد بطل المقاومة الإيراني قاسم سليماني، الطريق لروسيا لدخول سوريا في سبتمبر 2015 للدفاع عن الحكومة بشكل أكثر مباشرة. قاد سليماني بنفسه الحروب البرية ضد جبهة النصرة وداعش في سوريا والعراق. كان تحالف قوى المقاومة هذا شرطا اساسياً وضروريا لبقاء الشعوب المستقلة في المنطقة.
لعب سليماني دورا رئيسيا في الدفاع عن غزة ضد الهجمات الصهيونية الإجرامية، وفي الدفاع عن لبنان ، خاصة خلال الغزو الإسرائيلي عام 2006. حيث كشف ممثل حماس في لبنان أحمد عبد الهادي ، [بعد وقت قصير من اغتيال سليماني] ، أن قائد حزب الله عماد مغنية وقاسم سليماني كانا يزوران غزة بانتظام ويقودان خطة لبناء مئات الكيلومترات من الأنفاق كوسيلة للدفاع ضد الحصار والقصف المتكررة من قبل الصهاينة.
في مقابلة مهمة في عام 2019 ، تحدث سليماني عن دوره في مقاومة لبنان للهجوم الإسرائيلي عام 2006 ، قائلاً إن جزءًا من دافع تل أبيب لشن الهجوم هو أن “أكثر من 60 في المئة من الجيش الأمريكي … كان يتمركز في منطقتنا. وكان هناك أكثر من 150 ألف جندي أمريكي في العراق وحده وأكثر من 30 ألف جندي في أفغانستان. وبهذه الطريقة حاول الصهاينة استغلال هذا الوضع الذي بدا مواتياً لهم في الظاهر.
لكن حزب الله، بدعم واسع من أبناء جنوب لبنان، تمكن من وقف الغزو الصهيوني خلال 33 يوما. على الرغم من أسلحة تل أبيب المتطورة وتواطؤ العديد من الأنظمة العربية، كان الإسرائيليون عاجزين وتراجعوا بسبب تزايد الخسائر. كان سليماني حينها مسؤولاً عن دعم إيران اللوجستي والمعنوي للبنان.
ثم تولى هذا القائد في المقاومة قيادة عمليات مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء سوريا (من جبال القلمون إلى حلب إلى دير الزور) والعراق. حتى اعلن سليماني في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 الانتصار على داعش. وفي النهاية شكر قائد فيلق القدس الإيراني بتواضع آية الله الخامنئي على قيادته الحكيمة وتضحيات شعبي وحكومتي العراق وسوريا في قتالهما الشجاع ضد داعش. كما أشاد بحزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي “لدورهما الحاسم” في محاربة الجماعة الإرهابية.
وأشار سليماني إلى أن داعش ارتكب جرائم مروعة. “بما في ذلك قطع رؤوس الأطفال ، وسلخ الرجال أحياء أمام عائلاتهم ، واستعباد واغتصاب الفتيات والنساء الأبرياء ، وحرق الناس أحياء ، وذبح مئات الشباب”. بالإضافة إلى ذلك ، قامت المجموعة الإرهابية المدعومة من أمريكا والسعودية أيضا بتشريد الملايين ، مما تسبب في أضرار مالية جسيمة ، بما في ذلك المساجد ومواقع التراث العالمي. في كل هذه الجرائم كان تنظيم الدولة الإسلامية أداة العدو [الصهيوني الأمريكي].
تنتشر قوات الاحتلال الأمريكية الآن بشكل كامل في العراق وسوريا بذريعة محاربة داعش. إذا كان الأمريكيون صادقين في أهدافهم المعلنة ، لكان عليهم أن يذكروا سليماني كبطل. لكن بما أنهم هم أنفسهم أدوات نظام مخادع ، فقد رأوا أنه العدو الرئيسي لهم. ومع ذلك ، كانت شعوب المنطقة أكثر حكمة [وفهموا الحقيقة]. ظهر سليماني ورفاقه، بمن فيهم أبو مهدي المهندس في العراق ، وقادة آخرون في الجيش السوري مثل الجنرال عصام زهراء الدين ، وقادة حزب الله اللبناني ، ولا سيما السيد حسن نصر الله ، إلى جانب قادة حركة المقاومة الفلسطينية ظهروا كأبطال مكافحة الإرهاب والصهيونية والإمبريالية في المنطقة.
في غضون ذلك ، قرر الرئيس ترامب ، الذي كان غاضبًا نتيجة الغيرة والعجز، على الفور قتل كل من قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، شخصيتان بارزتان في مكافحة الإرهاب في إيران والعراق ورمزان بارزان للأخوة والتعاون بين البلدين الجارين. وفي وقت لاحق قالت ابنة قاسم سليماني ، زينب سليماني ، إن والدها “قام بعمله بشكل جيد” لدرجة أنه أغضب العدو. “لقد أنقذ الناس … ليس فقط في بلده … ولكن من أجل جميع البلدان … لقد قضى على داعش ، لأنه لم يكن يريد قتل الأبرياء في أوروبا بمثل هذا الفيروس الخطير … كان يقاتل من أجل الجميع.
تعكس وسائل الإعلام الغربية وجهات النظر الذهانية لحكوماتهم. حيث أقر الكثيرون بأن سليماني كان القائد الرئيسي في المنطقة في عمليات محاربة لداعش، لكنهم قالوا أيضا إن واشنطن كانت غاضبة من دور سليماني. وهكذا ، وصفت وسائل الإعلام السياسية لترامب وتل أبيب اغتيال سليماني بأنه “دفاع عن النفس” ، لكن “بي بي سي” وصفت اغتيال قاسم سليماني بأنه “بشرى سارة لجهاديي داعش”. وتحدثت قناة “بي بي اس” الامريكية عن “ارث سليماني المعقد في العراق.
كانت مراسم تشييع سليماني والمهندس ورفاقهم العراقيين مذهلة. لو كان هدف الرئيس ترامب إيذاء قلوب شعبي إيران والعراق ، لكان قد حقق ذلك الهدف. بدأت التجمعات الكبيرة في بغداد وانتشرت في جميع أنحاء العراق وإيران. وأعلن البلدان الحداد العام عدة أيام. ظهر حزن الناس للعالم. حاولت وسائل الإعلام الاستعمارية الأمريكية التقليل من اعداد الحضور، لكن معظمهم أقروا بأن الملايين قد حضروا المراسم.
أشارت بعض المصادر الغربية في تحليلها السياسي اللاحق إلى أن اغتيال سليماني كان “ضربة كبيرة لحزب الله” لأن المقاومة اللبنانية (التي تسميها واشنطن وتل أبيب “إرهابية”) تعتمد علانية على الدعم الإيراني.
بينما أعربت وسائل إعلام أمريكية أخرى عن قلقها من انتقام إيراني محتمل من قوات الاحتلال الأمريكية في المنطقة. كما لوحظت ردود الفعل داخل المنطقة، ولا سيما في العراق. حيث اجتمعت الفصائل المتخاصمة معا لأول مرة منذ سنوات. وقال رئيس وزراء العراق عادل عبد المهدي إن “اغتيال قائد عسكري عراقي يشغل منصبًا رسميًا هو اعتداء على العراق .. وقتل شخصيات عراقية بارزة أو من دولة شقيقة على الأراضي العراقية انتهاك صارخ للسيادة العراقية”.
وخلال أيام قليلة صوت البرلمان العراقي على اخراج جميع القوات الأمريكية من البلاد. كما ان شخصيات سياسية عراقية بارزة طالبت بإغلاق السفارة الأمريكية. مثل ما حدث بعد الثورة الإيرانية عام 1979. ورغم أن هذه الأحداث كانت صنيعة واشنطن، إلا أن بعض المراقبين السياسيين في الولايات المتحدة وصفوها بأنها “انتصار إيران الحقيقي”. جميع المحاولات التي استمرت عقودًا لتقسيم العراق وإيران أصبحت الآن في خطر. حيث تريد المقاومة الانتقام وكررت مطالب العراق بانسحاب القوات الأمريكية من المنطقة برمتها. كان هذا مستوى جديدًا من مطالب الرأي العام.
في 8 كانون الثاني / يناير ، كجزء من “عملية الشهيد سليماني”، شن الجيش الإيراني [فيلق القدس] ضربة صاروخية رمزية إلى حد كبير على قاعدة عين الأسد الجوية في العراق، التي تستضيفها القوات الجوية الأمريكية. كان هذا أول هجوم مباشر لإيران على القوات الأمريكية. قبل الهجوم ، كانت هناك تحذيرات ولم تقع إصابات، ولكن أفيد لاحقاً أن 110 جنود أمريكيين أصيبوا “بجروح دماغية”. ربما بسبب طبيعة الهجوم، وعلى الرغم من التوترات الشديدة ، لم ترد إدارة ترامب عليها.
سعت إدارة ترامب ، التي فشلت في حروب أفغانستان وسوريا واليمن ووحدت العراقيين ضدها، إلى مواصلة حملة “الضغوط القصوى” على إيران. تضمنت الحملة فرض حصار اقتصادي على جزء كبير من المنطقة وانتهاك الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة أوباما في عام 2015. أثارت تصرفات إدارة ترامب غضب حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين تجاه واشنطن ، على الرغم من أن الأوروبيين أظهروا أنهم لا يستطيعون التصرف بشكل مستقل عن البيت الأبيض.
من ناحية أخرى، تجد روسيا والصين، اللتان تحالفتا في السابق مع واشنطن في الحملة ضد برنامج إيران النووي، نفسيهما الآن عرضة لإجراءات قسرية أمريكية أحادية الجانب. بالإضافة إلى ذلك، ساعدت الهزيمة المتزايدة لحروب واشنطن في اطار مشروع “الشرق الأوسط الجديد” على توسيع دور كلا البلدين في المنطقة. وفي ديسمبر 2019 ، قبل وقت قصير من اغتيال سليماني والمهندس، أجرت روسيا والصين وإيران مناورات بحرية مشتركة في الخليج الفارسي. كانت المناورات رداً على مزاعم أمريكية كاذبة بأن إيران تشكل تهديداً للملاحة في المنطقة. وفي منتصف عام 2020 أيضاً، أعلنت الصين وإيران أنهما توصلتا إلى اتفاقية اقتصادية مدتها 25 عاماً بقيمة 400 مليار دولار تركز على الطاقة والبنية التحتية والتصنيع. ووقعت الصين وروسيا اتفاقيات اقتصادية مماثلة مع سوريا بالتوازي مع الاتفاقية مع إيران. لم يكن أي من هذا هو ما أراد العدو تحقيقه [ عبر اغتيال سليماني].
وخلص عدد من المحللين إلى أن اغتيال ترامب لسليماني كان له في الواقع تأثير معاكس. لم يقتصر الأمر على عدم خلق انقسامات في محور المقاومة فحسب، بل ساعد أيضا على توحيد هذا المحور. على الرغم من تركيز وسائل الإعلام الأمريكية على زيادة احتمالية حدوث مواجهة مباشرة بين إيران وأمريكا (وهو ما يريد الجانبان تجنبه) ، يشير المحللون الأكثر حكمة إلى أن تطلعات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط [نتيجة اغتيال سليماني] باتت بعيدة المنال الآن.
حيث يقول المحلل السوري البريطاني داني ماكي، إن إرث سليماني في سوريا سيستمر لأنه لا يزال هناك عشرات الآلاف من الجنود والعديد من القادة في سوريا الذين ساعد في تدريبهم وربما سيواصلون الطريق لتوسيع نفوذ وهيمنة ايران في جميع أنحاء الشرق الأوسط. كما كتب محسن صلحدوست، الخبير الإيراني الأسترالي، أن اغتيال سليماني أدى إلى ظهور فصائل مقاومة جديدة وهجماتها على القوات الأمريكية في العراق، وعلى أي حال، عززت مكانة إيران في المنطقة.
الحقيقة هي أن العدو خلق في صورة “الشهيد سليماني” أسطورة تحظى بشعبية كبيرة ستعيش أطول من كل القادة الحاليين للحكومات المعادية. وكما قالت زينب سليماني، “كان يعتقد الأعداء أنه بعد مقتل سليماني سينتهي كل شيء، لكنهم كانوا مخطئين تماماً. لم يروا الغضب في عيون الشعب الإيراني. لم يروا عيونهم. لم يروا حزنهم … هم مخطئون تماماً في الاعتقاد بأن هذه ستكون نهاية الجنرال سليماني. هذه بداية سليماني”.
المصدر: الوقت
0
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال